أفريقيا تنتفض- غزة، الانقلابات، ونهاية الهيمنة الغربية

المؤلف: د. عبد الحفيظ السريتي11.19.2025
أفريقيا تنتفض- غزة، الانقلابات، ونهاية الهيمنة الغربية

لم يشهد العالم الحديث فتكًا وإبادة جماعية بهذا القدر من الهول والفظاعة كما يحدث اليوم في غزة، حيث يتابع العالم المتحضر بأعين دامعة وقلوب موجوعة ما يجري من تدمير شامل، وإزهاق للأرواح البريئة، وترويع للنفوس الآمنة، وهدم للمباني الشامخة، وكأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا مأساويًا، يتأثر بمشاهد الدمار، لكن دون أن يحرك ساكنًا، أو يدفعُه ضميرُه الإنسانيُّ إلى وضع حد لهذه المشاهد المروعة.

لقد استحوذت غزة – بصمودها الأسطوري في وجه طائرات وبوارج ودبابات جيش الاحتلال المدجج بالسلاح – على اهتمام العالم، وجعلت كبريات عواصم العالم تترقب أنفاسها، فأصبحت اليوم الحدث الأبرز الذي لا يضاهيه حدث.

وفي خضم هذه الأحداث الجسام، تتوالى أحداث أخرى بالغة الأهمية على الساحة الدولية، تدفع بقوة نحو إعادة تشكيل النظام العالمي المختل، والذي اهتزت أركانه بسبب الهيمنة الأمريكية المطلقة على مقاليد الأمور.

فالقارة الأفريقية تشهد بدورها حراكًا متناميًا، يتقاطع مع القضية الفلسطينية في الهدف النبيل المتمثل في التحرر والانعتاق من براثن القوى الاستعمارية الغاشمة التي استنزفت خيراتها، وحرمت أبناءها من العيش الكريم، وتركتهم فريسة للجهل والفقر والنزاعات الدامية.

فبعد أن جردها الغرب من ثرواتها، ونهب مقدراتها، ها هي القارة السمراء تنتفض وتنفض عنها غبار الذل والتبعية، سعيًا نحو مستقبل مشرق، بعيدًا عن الحكومات العميلة، التي تنكرت لشعوبها، ورهنت مصيرها بالدول الغربية التي نصبتها حارسًا أمينًا على عمليات النهب والاستغلال، بينما يتضور أبناؤها جوعًا، ويعانون من الفقر المدقع، وتفتك بهم الأمراض الفتاكة، في حين تنعم دول أجنبية بثرواتهم، وتستفيد منها طغمة حاكمة فاسدة.

وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي يحملها الأفارقة عن الانقلابات العسكرية، وما خلفته من فوضى وانعدام للأمن والاستقرار، فإن التغيير والإطاحة بالأنظمة السلطوية المستبدة، أصبح بمثابة طوق النجاة لدى الشعوب، وأملًا في غدٍ أفضلَ، يسوده العدل والمساواة، على الرغم من إدراكهم لصعوبة الطريق وطول المسافة.

فرنسا تفقد سيطرتها في القارة السمراء

إن سلسلة الانقلابات العسكرية المتلاحقة التي شهدتها القارة الأفريقية، والتي أطاحت بأنظمة موالية للغرب، وعلى رأسها فرنسا، قد صدمت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لم يستوعب حجم الخسائر المتتالية في دول مثل مالي والنيجر وبوركينافاسو والغابون، واصفًا الأمر بالصعب، ومحملًا جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE) مسؤولية التقصير في كشف التحركات العسكرية التي أدت إلى الانقلابات، وعلى رأسها الانقلاب الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم، الحليف المقرب لباريس.

لم يكن من السهل على فرنسا أن تتقبل هذه الخسائر المدوية في مستعمراتها السابقة، والتي كانت تعتبرها مجالًا حيويًا، تستغله دون حسيب أو رقيب.

فالقوات الفرنسية التي غادرت قواعدها العسكرية مجبرة، وسط هتافات معادية لوجودها، قد تراجعت مكانتها إلى الحضيض، وتلطخت سمعتها بدماء شعوب القارة السمراء التي كانت تدر عليها ذهبًا.

إن خروج القوات العسكرية والبعثات الدبلوماسية من بعض الدول الأفريقية، وعلى رأسها الانسحاب العسكري الفرنسي من النيجر وإغلاق السفارة، قد كشف المستور.

فالقوات الأجنبية التي أقامت قواعد عسكرية في العديد من الدول، بحجة مكافحة الإرهاب، تبين أنها كانت تستفيد من وجود هذه الحركات الإرهابية، وتوظفها لزعزعة الاستقرار في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وذلك لتبرير وجودها وضمان مصالحها، وحماية الشركات الكبرى وحماية سرقة الثروات والمعادن الثمينة التي يتم تهريبها إلى الخارج.

ففرنسا التي لا تمتلك منجمًا واحدًا للذهب على أراضيها، تعتبر من بين الدول التي تمتلك احتياطات كبيرة من الذهب.

والواقع أن الشركات الغربية والفرنسية على وجه الخصوص، ستواجه أزمة حقيقية، فأكبر شركة لاستخراج اليورانيوم في النيجر هي شركة فرنسية.

وفرنسا وحدها تستفيد من يورانيوم النيجر بنسبة تصل إلى 70% لتشغيل مفاعلاتها النووية السلمية.

الغرب مناصر للديمقراطية ومخالف لها!

إن نفاق الغرب الاستعماري لا حدود له، فهو يدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان عندما تخدم مصالحه، ويتجاهلها عندما تكون الأنظمة المستبدة والفاسدة تحت سيطرته وتنفذ أوامره.

هذا ما تجلى في موقف باريس، عندما أطيح بأحد أتباعها المخلصين، محمد بازوم، حيث طالبت بعودته واحترام النظام الدستوري، بل هددت بالتدخل العسكري دفاعًا عن "الشرعية" التي أهدرت حقوق الشعب في النيجر، وقدمتها للغرباء لكسب رضاهم وتوفير الحماية لهم ولأسرهم التي اغتنت من عرق ودماء الأبرياء.

إن تجربة أفريقيا مع الانقلابات العسكرية طويلة ومريرة، حيث شهدت القارة منذ استقلالها الشكلي حوالي 200 انقلاب، لم تنجح في إخراجها من الحروب الأهلية والصراعات الدامية التي خلفت جراحًا عميقة في جسد قارة ابتليت بالطغاة والغزاة.

أصوات الدبابات وصعوبة التحول نحو حكم مدني

لكن سلسلة الانقلابات التي شهدتها العديد من الدول الأفريقية في السنوات الأخيرة، تأتي في سياق مختلف، حيث ترفع شعار استقلالية القرار الأفريقي عن الهيمنة الغربية، والعودة إلى الشرعية الشعبية كأساس لانتقال حقيقي، تتداول فيه النخب المدنية السلطة سلميًا عبر انتخابات نزيهة وشفافة.

فمبادرة الجيش هذه المرة لم تكن منفصلة عن الشعب، بل حظيت بدعم شعبي واسع، حيث اصطف الشعب إلى جانب الانقلابيين الذين وضعوا حدًا لأنظمة فاسدة، والتزموا بفترات انتقالية يتم بعدها تسليم السلطة إلى قوى يختارها الشعب.

كما أن القوى السياسية بشكل عام لم تعترض على تحرك الجيش، بل رأت فيه مخرجًا قد يساعد على تفكيك هياكل الاستبداد التي وظفت المال والنفوذ لشراء الولاءات واستقطاب الفاسدين، لإفشال كل المحاولات الرامية إلى كسر قيود العبودية وتفكيك قلاع الاستبداد.

إن التحولات التي تشهدها العديد من الدول الأفريقية لن يتركها الغرب الاستعماري تكمل مسيرتها، فهو على استعداد لارتكاب أبشع الجرائم للحفاظ على مصالحه ومواقع نفوذه.

فالتاريخ يشهد على فرق الموت التي جندتها الدول الغربية لاغتيال القادة الأفارقة الذين عملوا بإخلاص من أجل نهضة أفريقيا وتحررها من الاستعمار.

فقد اغتيل باتريس لومومبا الزعيم الكونغولي الذي كان يشكل خطرًا على الاستعمار البلجيكي، رميًا بالرصاص مع مجموعة من رفاقه.

وكذلك توماس سانكارا زعيم بوركينافاسو الذي شكل تهديدًا حقيقيًا للوجود الفرنسي، فدبرت له القوات الفرنسية انقلابًا عسكريًا انتهى بمقتله.

وفي غينيا بيساو ناضل الزعيم أميلكار كابرال ضد الاستعمار البرتغالي، فكان مصيره الاغتيال.

هذا هو الغرب الذي يعزف على مسامع المضطهدين لحن الحرية وحقوق الإنسان، بينما يخفي وجهًا قبيحًا مليئًا بالرعب والقتل والدمار. ورغم كل المعاناة التي تحملتها القارة السمراء، ها هي اليوم تنتفض وتنهض من جديد.

وبفضل جيل من الشباب المتعلم، تستمر المسيرة على خطى القادة العظام الذين ضحوا بأرواحهم من أجل كرامة وحرية أفريقيا واستقلالها عن الهيمنة الأجنبية.

وعلى نفس المنوال، تحدث القادة الأفارقة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 78، حيث كانت كلماتهم مدوية ومخيفة للغرب الذي بات محاصرًا بجرائمه البشعة التي ارتكبها ضد الإنسانية في عالم الجنوب.

فمن مطالبة الغرب بتعويض أفريقيا عن الأضرار الناجمة عن تجارة الرقيق، إلى دعوته إلى إنهاء استغلالها ووقف نزعته العنصرية، كانت مطالبهم واضحة وجريئة.

إن أفريقيا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، يقودها شباب من داخل الجيش، أطلق عليها البعض اسم "السياديين الجدد".

وعلى الرغم من أن الانقلابات العسكرية قد لا تحمل الخير، فإن نجاح هؤلاء في ترسيخ قيم العدل والإنصاف في حياة الشعوب، وتسليم السلطة ونقلها إلى التنافس السلمي والمدني، سيمكن القارة السمراء من عبور الجسر وتحقيق الحرية والاستقلال. فهل ستنهض أفريقيا حقًا وتدق المسمار الأخير في نعش الابتزاز والاستغلال الغربي؟

 

 

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة